فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} العدل ما هو صواب وحسن، وهو نقيض الجور والظلم.
أمر اللَّهُ الإنسانَ بالعدل فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين الخَلْق؛ فالعدلُ الذي بينه وبين نفسه مَنْعُها عما فيه هلاكُها، قال تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى} [النازعات: 40]، وكمالُ عدلِه مع نفسه كيُّ عُروقِ طمعِه.
والعدلُ الذي بينه وبين ربِّه إيثارُ حقِّه تعالى على حظِّ نفسه، وتقديمُ رضا مولاه على ما سواه، والتجرد عن جميع المزاجر، وملازمة جميع الأوامر.
أو العدل الذي بينه وبين الخَلْق يكون ببذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل أو كثر، والإنصاف بكل وجه وألا تَشِيَ إلى أحد بالقول أو بالفعل، ولا بِالهَمِّ أو العزم.
وإذا كان نصيبُ العوام بَذْلَ الإنصافَ وكَفِّ الأذى فإِنَّ صفةَ الخواص تَرْكُ الانتصاف، وإسداء الإِنْعَام، وترك الانتقام، والصبرُ، على تَحَمُّلِ، ما يُصيبُكَ من البلوى.
وأما الإحسان فيكون بمعنى العلم- والعلمُ مأمورٌ به- أي العلم بحدوثِ نَفْسه، وإثباتِ مُحْدِثه بصفات جلاله، ثم العلم بالأمور الدينية على حسب مراتبها، وأما الإحسانُ في الفعل فالحَسَنُ منه ما أمر الله به، وأَذِنَ لنا فيه، وحَكَمَ بمدح فاعله.
ويقال الإحسان أن تقوم بكل حقِّ وَجَبَ عليك حتى لو كان لطيرٍ في مِلكِك، فلا تقصر في شأنه.
ويقال أن تَقْضِيَ ما عليك من الحقوق وألا تقتضِيَ لك حقًا من أحد.
ويقال الإحسان أن تتركَ كل ما لَكَ عند أحد، فأما غير ذلك فلا يكون إحسانًا.
وجاء في الخبر: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» وهذه حال المشاهدة التي أشار إليها القوم.
قوله: {وَإِيِتَآئِ ذِى القُرْبَى} إعطاء ذي القرابة، وهو صلةُ الرَّحِمِ، مع مُقاساةِ ما منهم من الجَوْرِ والجفاء والحَسَدِ.
{وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاء وَالمُنْكَرِ} وذلك كلُّ قبيح مزجورٍ عنه في الشريعة.
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)}.
يُفْرَضُ على كافةِ المسلمين بعهد الله في قبول الإسلام والإيمان، فتجبُ عليهم استدامةُ الإيمان. ثم لكلِّ قوم منهم عهدٌ مخصوص عاهدوا الله عليه، فهم مُطَالَبُون بالوفاء به؛ فالزاهدُ عَهْده ألا يرجعَ إلى الدنيا، فإذا رجع إلى ما تركه منها فقد نَقضَ عهده ولم يفِ به، والعابد عاهده في تَرِكِ الهوى، والمريدُ عَاهَدَه في ترك العادة، وآثره بكل وجه، والعارف عهده التجرد له، وإنكار ما سواه، والمحب عهده تركُ نَفْسِهِ معه بكل وجه والموحّضد عهده الامتحاء عنه، وإفراده إياه بجميع الوجوه والعبد مَنْهِيٌّ عن تقصير عهده، مأمورٌ بالوفاء به.
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هي أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} مَنْ نَقَضَ عهده أفسد بآخِرِ أمرِه أَوَّلَه، وهَدَمَ بِفِعْلِهِ ما أَسَّسَه، وقَلَعَ بيده ما غَرَسَه، وكان كمن نقضت غَزْلَها من بعد قوة أنكاثًا أي من بعد ما أبرمت فَتْلَه.
وإنَّ السالكَ إذا وقعت له فترة، والمريدََ إذا حصلت له في الطريق وقفةٌ، والعارف إذا حصلت له حجَبَةٌ، والمحبِّ إذا استقبلته فرقةٌ- فهذه مِحَنٌ عظيمةٌ ومصائِبُ فجيعةٌ، فكما قيل:
فَلأَبْكِيَنَّ على الهلالِ تأسُّفًا ** خوفَ الكسوفِ عليه قبل تمامه

فما هو إلا أَنْ تُكْشَفُ شَمْسهُم، وينطفِئَ- في الليلة الظلماء- سِرجُهم، ويتشتَّتَ من السماء نجومِهم، ويصيبَ أزهارَ أنْسِهم وربيعَ وَصْلِهم إعصارٌ فيه بلاء شديدٌ، وعذابٌ أليم، فإنَّ الحقَّ- سبحانه إذا أراد بقوم بلاء فكما يقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئَدَتَهُم وَأَبْصَارَهُمْ كَمَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 10]. فإِنَّ آثارَ سُخْطِ الملوكِ مُوجِعةُ، وقصةَ إعراضِ السلطانِ مُوحِشَةٌ وكما قيل:
والصبر يَحْسُنُ في المواطن كلها ** إلا عليكَ فإنَّه مذمومٌ

هنالك تنسكب العَبَرَاتُ، وتُشَق الجيوب، وتُلْطَم الخدود، وتُعطَّلُ العِشار، وتخَرَّبُ المنازلُ، وتسودُّ الأبواب، وينوح النائح:
وأتى الرسول فأخ ** بر أنهم رحلوا قريبا

رجعوا إلى أوطانهم ** فجرى لهم دمعي صبيبا

وتركن نارًا في الضلوع ** وزرعن في رأسي مشيبا

قوله جلّ ذكره: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
بلاء كلِّ واحدٍ على ما يليق بحاله؛ فمن كان بلاؤه بحديث النَّفْسِ أو ببقائه عن هواه، وبحرمانه لكرائمه في عُقْباه فاسمُ البلاء في صفته مَجَازٌ، وإنما هذا بلاء العوام، ولكنَّ بلاء هذا غيرُ الكرامِ فهو كما قيل:
مَنْ لم يَبِتَ والحبُّ مِلْءُ قؤادِه ** لم يَدْرِ كيف تَفَتُّتُ الأكبادِ

اهـ.

.تفسير الآيات (93- 96):

قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أمر ونهى، وخوف من العذاب في القيامة، وكان ربما ظن من لا علم له- وهم الأكثر- من كثرة التصريح بالحوالة على القيامة نقص القدرة في هذه الدار، صرح بنفي ذلك بقوله تعالى: {ولو شاء الله} أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، أن يجعلكم أمة واحدة لا خلاف بينكم في أصول الدين ولا فروعه {لجعلكم أمة واحدة} متفقة على أمر واحد لا تؤم غيره، منفيًا عنها أسباب الخلاف {ولكن} لم يشأ ذلك وشاء اختلافكم، فهو {يضل من يشاء} عدلًا منه، لأنه تام الملك عام الملك ولو كان الذي أضله على أحسن الحالات {ويهدي} بفضله {من يشاء} ولو كان على أخس الأحوال، فبذلك يكونون مختلفين في المقاصد، يؤم هذا غير ما يؤمه هذا، فيأتي الخلاف مع تأدية العقل إلى أن الاجتماع خير من الافتراق فالاختلاف مع هذا من قدرته الباهرة.
ولما تقرر بهذا أن الكل فعله وحده فلا فعل لغيره أصلًا، كان ربما أوقع في الوهم أنه لا حرج على أحد في شيء يفعله بين أن السؤال يكون عن المباشرة ظاهرًا على ما يتعارف الناس في إسناد الفعل إلى من ظهر اكتسابه له، فقال تعالى مرغبًا مرهبًا مؤكدًا لإنكارهم البعث عما ينشأ عنه: {ولتسئلن عما كنتم} أي كونًا أنتم مجبولون عليه {تعلمون} وإن دق، فيجازي كلًا منكم على عمله وإن كان غنيًا عن السؤال، فهو بكل شيء عليم.
ولما بين أن الكذب وما جر إليه أقبح القبائح، وأبعد الأشياء عن المكارم، وكان من أعظم أسباب الخلاف، فكان أمره جديرًا بالتأكيد، أعاد الزجر عنه بأبلغ مما مضى بصريح النهي مرهبًا مما يترتب على ذلك، فقال معبرًا بالافتعال إشارة إلى أن ذلك لا يفعل إلا بعلاج شديد من النفس لأن الفطرة السليمة يشتد نفارها منه: {ولا تتخذوا أيمانكم دخلًا} أي فسادًا ومكرًا وداء وخديعة {بينكم} أي في داخل عقولكم وأجسامكم {فتزل} أي فيكون ذلك سببًا لأن تزل {قدم} هي في غاية العظمة بسبب الثبات {بعد ثبوتها} عن مركزها الذي كانت به من دين أو دنيا، فلا يصير لها قرار فتسقط عن مرتبتها، وزلل القدم تقوله العرب لكل ساقط في ورطة بعد سلامة {وتذوقوا السوء} مع تلك الزلزلة {بما صددتم} أي أنفسكم ومنعتم غيركم بأيمانكم التي أردتم بها الإفساد لإخفاء الحق {عن سبيل الله} أي الملك الأعلى، يتجدد لكم هذا الفعل ما دمتم على هذا الوصف {ولكم} مع ذلك {عذاب عظيم} ثابت غير منفك إذا متم على ذلك.
ولما كان هذا خاصًا بالأيمان، أتبعه النهي عن الخيانة في عموم العهد تأكيدًا بعد تأكيد للدلالة على عظيم النقض فقال تعالى: {ولا تشتروا} أي تكلفوا أنفسكم لجاجًا وتركًا للنظر في العواقب أن تأخذوا وتستبدلوا {بعهد الله} أي الذي له الكمال كله {ثمنًا قليلًا} أي من حطام الدنيا وإن كنتم ترونه كثيرًا، ثم علل قلته بقوله تعالى: {إنما عند الله} أي الذي له الجلال والإكرام من ثواب الدارين {هو خير لكم} ولا يعدل عن الخير إلى ما دونه إلا لجوج ناقص العقل؛ ثم شرط علم خيريته بكونهم من ذوي العلم فقال تعالى: {إن كنتم} أي بجبلاتكم {تعلمون} أي ممن يتجدد له علم ولم تكونوا في عداد البهائم، فصار العهد الشامل للأيمان مبدوءًا في هذه الآيات بالأمر بالوفاء به ومختومًا بالنهي عن نقضه، والأيمان التي هي أخص منه وسط بين الأمر والنهي المتعلقين به، فصار الحث عليها على غاية من التأكيد عظيمة ورتبة من التوثيق جليلة، ثم بين خيريته وكثرته بقوله تعالى على سبيل التعليل: {ما عندكم} أي من أعراض الدنيا، وهو الذي تتعاطونه بطباعكم {ينفد} أي يفنى، فصاحبه منغص العيش أشد ما يكون به اغتباطًا بانقطاعه أو بتجويز انقطاعه إن كان في عداد من يعلم {وما عند الله} أي الذي له الأمر كله من الثواب {باق} فليؤتينكم منه إن ثبتم على عهده؛ ثم لوح بما في ذلك من المشقة عطفًا على هذا المقدر فقال تعالى مؤكدًا لأجل تكذيب المكذبين: {ولنجزين} أي الله- على قراءة الجماعة بالياء ونحن- على قراءة ابن كثير وعاصم بالنون التفاتًا إلى التكلم للتعظيم {الذين صبروا} على الوفاء بما يرضيه من الأوامر والنواهي {أجرهم} ولما كان كرماء الملوك يوفون الأجور بحسب الأعمال من الأحسن وما دونه، أخبر بأنه يعمد إلى الأحسن فيرفع الكل إليه ويسوي الأدون به فقال: {بأحسن ما كانوا} أي كونًا هو جبلة لهم {يعملون}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)}.
اعلم أنه تعالى لما كلف القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه، أتبعه ببيان أنه تعالى قادر على أن يجمعهم على هذا الوفاء وعلى سائر أبواب الإيمان، ولكنه سبحانه بحكم الإلهية يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
أما المعتزلة: فإنهم حملوا ذلك على الإلجاء، أي لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى الكفر لقدر عليه، إلا أن ذلك يبطل التكليف، فلا جرم ما ألجأهم إليه وفوض الأمر إلى اختيارهم في هذه التكاليف، وأما قول أصحابنا فيه فهو ظاهر، وهذه المناظرة قد تكررت مرارًا كثيرة، وروى الواحدي أن عزيرًا قال: يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء، فقال: يا عزير أعرض عن هذا، فأعاده ثانيًا: فقال: أعرض عن هذا، فأعاده ثالثًا، فقال: أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوة.
قالت المعتزلة: ومما يدل على أن المراد من هذه المشيئة مشيئة الإلجاء، أنه تعالى قال بعده: {ولتسألن عما كنتم تعملون} فلو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عنها عبثًا، والجواب عنه قد سبق مرارًا، والله أعلم.
{وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)}.
اعلم أنه تعالى لما حذر في الآية الأولى عن نقض العهود والإيمان على الإطلاق، حذر في هذه الآية فقال: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلًا بَيْنَكُمْ} وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الإيمان، وإلا لزم التكرير الخالي عن الفائدة في موضع واحد، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها، فلهذا المعنى قال المفسرون: المراد من هذه الآية نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقض عهده، لأن هذا الوعيد وهو قوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} لا يليق بنقض عهد قبله، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وشرائعه.
وقوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية، ومحنة بعد نعمة، فإن من نقض عهد الإسلام فقد سقط عن الدرجات العالية ووقع في مثل هذه الضلالة، ويدل على هذا قوله تعالى: {وَتَذُوقُواْ السوء} أي العذاب: {بِمَا صَدَدتُّمْ} أي بصدكم: {عَن سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ذلك السوء الذي تذوقونه سوء عظيم وعقاب شديد، ثم أكد هذا التحذير فقال: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَنًا قَلِيلًا} يريد عرض الدنيا وإن كان كثيرًا، إلا أن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون، يعني أنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيرًا من خيرات الدنيا، فلا تلتفتوا إليه، لأن الذي أعده الله تعالى على البقاء على الإسلام خير وأفضل وأكمل مما يجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام إن كنتم تعلمون التفاوت بين خيرات الدنيا وبين خيرات الآخرة، ثم ذكر الدليل القاطع على أن ما عند الله خير مما يجدونه من طيبات الدنيا فقال: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} وفيه بحثان:
البحث الأول: الحس شاهد بأن خيرات الدنيا منقطعة، والعقل دل على أن خيرات الآخرة باقية، والباقي خير من المنقطع، والدليل عليه أن هذا المنقطع إما أن يقال: إنه كان خيرًا عاليًا شريفًا أو كان خيرًا دنيًا خسيسًا، فإن قلنا: إنه كان خيرًا عاليًا شريفًا فالعلم بأنه سينقطع يجعله منغصًا حال حصوله، وأما حال حصول ذلك الانقطاع فإنها تعظم الحسرة والحزن، وكون تلك النعمة العالية الشريفة كذلك ينغص فيها ويقلل مرتبتها وتفتر الرغبة فيها، وأما إن قلنا: إن تلك النعمة المنقطعة كانت من الخيرات الخسيسة فهمنا من الظاهر أن ذلك الخير الدائم وجب أن يكون أفضل من ذلك الخير المنقطع، فثبت بهذا أن قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} برهان قاطع على أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا.
البحث الثاني: أن قوله: {وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} يدل على أن نعيم أهل الجنة باق لا ينقطع.
وقال جهم بن صفوان: إنه منقطع والآية حجة عليه.
واعلم أن المؤمن إذا آمن بالله فقد التزم شرائع الإسلام والإيمان، وحينئذ يجب عليه أمران: أحدهما: أن يصبر على ذلك الإلتزام وأن لا يرجع عنه وأن لا ينقضه بعد ثبوته.
والثاني: أن يأتي بكل ما هو من شرائع الإسلام ولوازمه.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه، فقال: {وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صَبَرُواْ} أي على ما التزموه من شرائع الإسلام {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي يجزيهم على أحسن أعمالهم، وذلك لأن المؤمن قد يأتي بالمباحات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شك أنه على فعل المندوبات والواجبات يثاب لا على فعل المباحثات، فلهذا قال: {وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. اهـ.